الأحد، 17 مارس 2019

السرديات والتحليل السردي: سعيد يقطين



1 السرديات: المشروع والأفاق
لتطوير وعينا بالسرديات وجب ما يلي:
1.    علمنة السرديات الإقرار بعلمية السرديات على المستوى النظري والتطبيقي أي الوعي والممارسة.
2.    تعميق المعرفة السردية: من خلال الإطلاع على المعرفة والاجتهادات السردية، وإدراك الفروقات بين مختلف المشتغلين بها، وكذا مواكبة تياراتها ومقاصدها، (امتلاك رؤية ابستمولوجية دقيقة بالسرديات)
ولتحقيق العمق المعرفي توجب: تجنب السطحية والتمييز بين الاجتهادات والاسهام في تطوير السرديات.
كانت مرحلة التأسيس مع جيرار جينيت الذي وضع الأسس الضرورية لانطلاق المشروع السردي أما التطوير فاختار له سعيد يقطين نموذجين: "ميك بال وجاب لينتفلت"
وللكتاب غرضين: الغاية القريبة: تقديم معرفة بالنظريات السردية للقارئ –وإن كان غير متتبع-
الغاية البعيدة: الإمساك بالرؤية العامة التي تتحكم في السرديين وهم يطورون السرديات.

الفصل الأول: السرديات والنقد السردي
لو رصدنا المنجز السردي العربي وهو يعلن انتماءه –صراحة أو ضمنا- للسرديات، لألفينا أنفسنا على مستوى السطح وهذا يعود لتعاملنا مع السرديات على مستوى الوعي والممارسة، وكل ذلك يعود لطبيعة تصورنا للدرس الأدبي الذي يتسم بالعتاقة. حيث تعود جذوره إلى السؤال المكرر دائما: هل النقد الأدبي فن أو علم؟ كان الجواب النظري فن وعلم في الآن ذاته. لكن الجواب الحقيقي النقد الفني ويستحيل أن يكون علما.
كان هذا التصور مبررا إلى غاية ثمانينات القرن الماضي، لأن العرب كانوا يسيرون في فلك ما تنجزه الكتابات النقدية الغربية لكن وبانتقال البنيوية إلى العالم العربي –علمنة الأدب- شكل منعرجا لكنها للأسف وصلت إلينا منزوعة النزوع العلمي.
انقسمت البنيوية في العلم العربي إلى:
أ‌.        التقليدي: الرفض لأنها –حسبهم- حولت النقد الأدبي إلى خطاطات. وقيل أنها قتلت الإنسان والتاريخ والأدب.
ب‌.  الحداثي: نهلوا من مفاهيم البنيوية لكنهم أبقوا على التصور التقليدي فن/ علم ودليل ذلك أنهم طالبوا بما بعد البنيوية كما فعلت الكتابة الأنجلو أمريكية رغم أنهم لم يتمثلوا البنيوية بعد. حيث فهمنا البنيوية في ضوء تصورنا للنقد الأدبي فاعتبارناها: فنا وعلما لكننا في الحقيقة أضعنا العلم وفرطنا في الفن، فجاءت بنيويتنا عرجاء كسيحة وهو ما يبرر الانتقال لما بعد البنيوية، وكان مبلغ علم دروس الجامعة مراكمة المعلومات وتنسيقها دون هم نظري أو منهجي وحين تكون القضايا المتناقضة نعمد إلى التوفيق بينها في موقف وسطي متوهمين أننا بذلك أخذنا بأحسن ما فيها.
السرديات أهم المنجزات التي حققها الدرس الأدبي لكننا تبنيناها دون هم منهجي أو هاجس علمي فجاءت نقدا سرديا أكثر من كونها علما سرديا.

السرديات: علما للسرد
سنبحث في العلم والموضوع الخلفية والمقاصد:
العلم:
 ولتحقيقه وجب توفر 4 مقومات: الاسم الزمن الموقع والوسيط
أ‌.        الاسم: تحديد الاسم بدقة دفعا لأي التباس، وحصل تذبذب في البداية قبل أن يستقر الأمر أخيرا مع تودروف في 1967, فصار السرديات NARRATOLOGIE 
ب‌.  الموقع: له موقع خاص ضمن باقي الاختصاصات القريبة، وفق علاقات النسب (هو في ذاته علما كليا تنضوي تحته علوم أخرى)  أو التجاور (انتماؤه لعلم كلي ينضوي تحته.) وانتمت السرديات في البداية إلى البويطيقيا poétique
ت‌.  الزمن: ما قبل السرديات وما بعدها، حيث يمكن اعتبار 1972 وبالتحديد تاريخ صدور كتاب جيرار جينيت "خطاب الحكاية" وبالضبط مقاله: "مقال في المنهج' وهو تاريخ ميلاد السرديات.
تعود الجذور القريبة للسرديات للشكلانيين الروس بينما تمتد الجذور البعيدة لبويطيقيا أفلاطون وأرسطو شراحهما ولأن العمل العلمي ليس من أهدافه أن يتشكل في لحظة ما استجابة لظروف طارئة، وإنما هو مشروع بعيد المدى وعليه فقد عملت السرديات على تحديد مجال بحثها وتوسيعها، لذا فقد حققت:
./ الانفتاح: بعدما كانت راويا ومرويا انفتحت على علوم أخرى كاللسانيات وعلم الاجتماع والنفس.
./ التعدد: تجاوزت السرديات علاقاتها مع البلاغة واللسانيات فقط، حيث انفتحت على علوم أخرى.
أي أنه تم الانتقال من الخاص إلى العام حيث اهتمت في بدايتها بالسرد في الأدب ثم اتسعت لتشمل السرد في الصورة والحركة...
ث‌.  الوسيط: أي الاطار العام لمناقشة ونشر الأفكار السردية. وكانت مجلة بويطيقيا التي تأسست 1970 مع جيرار جينيت وتزفيتان تودوروف، بالإضافة لكتب منشورات عتبة seuil، ويمكن التأريخ ومعرفة المستجدات السردية من هاذين المصدرين، حيث يعكس: نوع المقالات ونوعية الكتب" تطور السرديات.
الموضوع:
اقترح الشكلانيون الأدبية موضوعا للبويطيقا الجديدة، من حيث هي الخاصية التي تجعل من عمل ما عملا أدبيا. وهذا الجواب يفتح الباب على كثير الأسئلة، لأن العلم لا يقف عند حدود المنجز والمتحقق، وإنما ينشد المحتمل والممكن الإنجاز، ثم جعل السرديون موضوعهم "السردية" narrativité قياسا على الأدبية فإذا بنا ننتقل من العام إلى الخاص.
السردية متنوعة بتنوع المشتغلين بها، وهطا التنوع يخدم مجال البحث ويطوره.
Sujet_ fabula المتن والمبنى الحكائي/ تر إبراهيم الخطيب، جيرار جينيت: القصة/الحكي/ السرد، تزفيتان تودوروف القصة/ الخطاب، ميك بال: الحي/ القصة/ النص السردي، ريمون كينان: القصة/ النص/ السرد.
إن الاختلاف في مكونات ومراتب موضوع السرديات دليل عافية لا مرض، حيث يؤدي إلى تحاور السرديين ونقاشاتهم وهو ما يفتح باب إخصاب النظريات وتطورها، لأن السرديات تغتني بتعدد النصوص السردية واختلاف الخلفيات والمقاصد للمشتغلين بها.
الخلفيات والمقاصد:









مفاهيم أساسية لدى جينيت:
_  الجنس، الخطاب، النص:
1.    الخطاب:
جملة كبرى، وبذلك ينقل جينيت مقتضيات تحليل الجملة إلى الخطاب الذي سيتحدد من خلال : الزمن الصوت والصيغة، بتوظيف مصطلحات بلاغية ويويطيقية بدلالات جديدة وتحقق كل هذا بصورة جلية في كتابه: خطاب الحكاية 1972.
2.    الجنس:
في كتابه: جامع النص، يتحدث عن نظرية الأجناس الأدبية حيث قدم رؤية جديدة، مميزا بين:
 الصيغ- الأنماط- الأجناس
الموضوع- الصيغة- الشكل

كما ربط في أخر الكتاب بين الأجناس والنص. حيث فصل في علاقة كل نص مع غيره من النصوص الأخرى "المتعاليات النصية" وذكر هذا في كتابه "ألواح" على ترجمة سعيد يقطين. وجعل جينيت البويطيقيا ليست فقط دراسة لـ"خصائص الخطاب الأدبي" وإنما لمعمارية النص ككل.
3.    النص: لم يفرق جينيت بين الخطاب والنص كغيره، في بدايته عندما كان يؤسس للسرديات انطلاقا من تحليله لرواية "في البحث عن الزمن الضائع" لبروست وإنما انتظر إلى غاية ظهور "التناص" باعتباره تحولا جذريا في مفهوم النص حيث غير موضوع البويطيقيا من معمارية النص إلى المتعاليات النصية.

لقد قام مشروع جينيت على تصور شمولي مفاده: لا يمكن تحليل الخطاب السردي دون رؤية عامة للأجناس الأدبية. كما لا يمكن فهم الأجناس الأدبية دون المرور على العلاقات المتعددة للنصوص المختلفة.
جينيت العالم الذي يفكر في موضوعه الخاص في صلته بالموضوعات القريبة، وهو يعالجها جميعا من منظور سردي بلاغي بويطيقي.


السرديات والتحليل السردي:
فرق جينيت بين القصةHistoire والحكي récit والسرد narration حيث:
القصة: المدلول أو المحتوى الحكائي. وتتصل بالمادة.
الحكي: الدال أو الخطاب أو النص أو الملفوظ، يتصل بالجنس.
السرد: الفعل السردي المنتج. يتصل بالنوع.
إن الموضوع السردي عند جينيت هو الخطاب في علاقته بالقصة، لذلك لم يعن بالقصة في ذاتها واكتفى بالنظر إليها من خلال تحققها بواسطة الخطاب. وعليه فإن حدود الخطاب السردي تتحدد بين الراوي والمروي له، حيث لم يهتم لا بالمؤلف ولا بالقارئ .
لما كانت الجملة عند اللسانين أعلى وحدة يهتمون بها فقد نظر جينيت للخطاب على اعتباره جملة كبيرة تتكون من جمل عدة لتكوين بنية تلفظية لها مقوماتها النحوية والدلالية. واستعار جينيت من اللسانين مقولاتهم وركز على: الزمن الصوت والصيغة ونظر لكل منهم في ضوء علاقة القصة بالخطاب والسرد.
1.    الزمن:
أ‌.        الترتيب: { استباق- استرجاع} ولكل منهما (سعة ومدى)
ب‌.   المدة: { التلخيص، الوقفة، الحذف، المشهد}
ت‌.  التواتر: { الانفرادي، التكراري، التكراري المتشابه}

2.    الصيغة:
أ‌.        المسافة: { خطاب الأفعال، خطاب الأقوال.}
ب‌.  المنظور: { التبئير الصفر، التبيئير الداخلي، التبئير الخارجي}

3.    الصوت:
أ‌.        المقام السردي: { خارج حكائي، داخل حكائي، ميتا حكائي}
ب‌.   زمن السرد: {سابق، لاحق، متواقت، مختلط}
ت‌.  المستوى السردي: {براني الحكي، جواني الحكي، ذاتي الحكي.}

كون جيرار جينيت رؤية متكاملة للسرد تتكون من:
المقولات الكبرى: كأسئلة الزمن والصيغة وموقع الراوي، لا يمكن لأي عمل سردي أن يخلو من هذه المقولات وإلا انتفى انتماؤه للسرد.
المقولات الصغرى (العناصر): هي أجزاء من المقولات الكبرى وتحضر في الأعمال السردية بصور متفاوتة باختلاف الأنواع السردية. وهي متحولة غير ثابتةـ ومثالها: المسافة والمنظور وسرعة السرد وتوتتره.
المكونات: وهي العناصر المتغيرة داخل النوع السردي الواحد بتغيير وعي الكتاب، كتغيير إيقاع السرد من حيث السرعة أو التواتر أو هيمنة صيغ معينة... حيث تخضع لأبعاد جمالية.

















ميك بال السرديات والدلالة

الأحد، 10 مارس 2019

جبران خليل جبران... إنسان المتناقضات وأديب الشهرة



جبران خليل جبران شاعر وكاتب ورسام عربي لبناني مسيحي من أدباء وشعراء المهجر، ولد  في سنة  1883 في بلدة بشري  بلبنان لأسرة فقيرًا، هاجر جبران مع والدته سنة 1895 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث درس الفن وبدأ مشواره الأدبي، ثم عاد مع عائلته إلى بيروت أين انتخب شاعر الكلية. بقي فيها سنوات عدة قبل أن يعود إلى بوسطن حيث  أسس جبران خليل جبران الرابطة القلمية مع كلِّ من ميخائيل نعيمة، عبد المسيح حداد، ونسيب عريضة. كانت فكرة الرابطة القلمية تجديد الأدب العربي.
كان جبران ميالاً منذ الطفولة إلى الوحدة والتأمل وأحلام اليقظة. وظل في مراهقته منطوياً على نفسه، بعيداً عن الأقارب والجيران .وكان سريع البديهة، متواضعاً وطموحاً. وكان شديد الرغبة في الشهرة ولو عن طريق الانتقاد. حتى قال عنه علي الطنطاوي في كتاب صور وخواطر: إنه خسر الايمان والرجولة والفضائل كلها وربح شهرة عريضة.
توفي جبران خليل جبران في نيويورك في 1931في الـ 48 من عمره. كان سبب الوفاة هو تليف الكبد وسل. وكانت أمنية جبران أن يُدفن في لبنان، وقد تحقق له ذلك في 1932. دُفن جبران في صومعته القديمة في لبنان، فيما عُرف لاحقًا باسم متحف جبران.
أوصى جبران أن تكتب هذه الكلمة على قبره بعد وفاته: أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك.

عن كتابه "النبي":

كتاب "النبي" لجبران خليل جبران، الذي قال عنه هو نفسه: " إنّه ديانتي وأقدسُ قدسيّات حياتي" "1923  كُتب في أصله باللغة الانجليزية ترجمه ثروت عكاشة وقدم له بمقدمة ربت عن 100 صفحة ضمنها تفاصيل حياة جبران، والمميز في هذه السيرة أن عكاشة أورد فيها كل غث وسمين عن حياة جبران  حيث لم يقتصر فقط على الانجازات والتكريمات والإعجابات بل تحدث بكل صراحة عن ما لجبران وما عليه، تحدث عن خلفيته الايديولجية وانتماءاته الفكرية ومسيحية جبران الخاصة به، وكيف أنه أقرب إلى الصوفية والإيمان بوحود الوجود وفكرة الحلول من أي شيء آخر. وأيضا تِبيانه أنه ثمة تناص في الشكل على الأقل بين ما كتبه جبران وبين ما كتبه نيتشه.
كما  تكلم عن علاقات جبران بالنساء وسبب عدم زواجه، كما  تطرق لتأثر جبران بعديد الفلاسفة الغربين ملحدين وعلمانيين ومتدينين، بالإضافة للعديد من المفكرين العرب خاصة ابن سينا والفارض...
وبعد كل هذا تفرغ ثروت عكاشة لترجمة كتاب "النبي" حيث جمع في نسخة الكتاب هذا بين وريقات الكتاب الانجليزية ثم تلاها بالصفحات التي عكف على ترجمتها ونقلها للعربية في أمانة علمية وبلاغة لغويةأضفت على النص والكتاب ككل جمالا وبراعة وحسنا.
أما عن جبران خليل جبران فقد أراد من خلال كتابه هذا عرض موقفه وقناعاته في مواضيع فلسفية من قبيل: الحياة والموت والعمل والصداقة والحب والزواج والأبوة والأمومة والطبقات الاجتماعية والرجل والمرأة
كل هذا بلغة تنضح بالمحسنات البيديعية والصور البيانية، استنادا على خيال خصب غذاه اطلاع جبران على الكثير من المؤلفات الفلسفية والصوفية والدينية زاده الكثير من الخصوبة فجاء ممعنا في الخيال غارقًا فيه.
نبي جبران مكث في قومه ردحا من الزمن ثم جاءت سفينة يقودها رجاله ليحملوه إلى موطنه الأصلي وإثر موقف الوداع ذاك وتأثر أصحاب النبي الذي بلغ حد البكاء وترجيه أن يمكث فيهم مدة أطول، استغل جبران الوضع ليبث وصاياه وخلاصة أمره على لسان من سماه "النبي" والملاحظ أن ما قاله عصي على التصنيف والانتماء لطائفة دينية دون سواها فهي كانت أقرب ما تكون لكونها وصايا إنسانية أوصى بها جبران لكن الجدير بالقول أنه هو نفسه لم يعمل بها في حياته الواقعية التي جاءت في كثير من الأحيان متناقضة مع التعاليم التي خطها في كتابه هذا. وأيا يكن شأن جبران فقد ترك من خلفه كتابا يمكن أن يصنف من أحسن ما كتب بعد رائعته الأجنحة المتكسرة.
 
أحبوا بعضكم بعضا ولكن لا تحيلوا الحب إلى قيد
بل أتيحوا له بالأحرى أن يكون بحرا يموج بين شطآن أرواحكم ..
ليملأ الواحد كأس الآخر ... لكن لا تشربوا من كأس واحدة
وليعط الآخر من خبزه .. لكن لا تأكلوا من نفس الرغيف
غنوا وارقصوا معا ، وافرحوا ، لكن ليبق كل واحد منكم وحيدا
مثلما تبقى أوتار الفيتارة وحدها ، رغم أنها ترتعش بنفس الموسيقى

أولادكم ليسوا لكم
أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.
ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم.
أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم لأن لهم أفكارا خاصةً بهم.
وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادكم.
ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم.
فهي تقطن في مسكن الغد، الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم.

عن كتابه "الأرواح المتمردة":
حكم من عبق فكر جبران، ذاك الفكر الذي لا يُقيم وزنا لا للأعراف ولا للتقاليد لكنه يدعي حبا ووصلا بالجمال أينما كان وحيثما وجد، بالإمكان القول دون مبالغة أن ما كتب بين جنبات هذا الكتاب يصلح ليكون نصائح وحكم تنفع البشرية والإنسانية ككل لا أبناء حي أو قبيلة أو ديانة... ما دون سواها، وبغض الطرف عما إذا كان خليل جبران يُطبق ما ينصح به أو لا إلا أنها تبقى وبحق نصائح قيمة وذات فائدة فربما مبلغ أوعى من سامع، نثر جبران بعضا من صوره المتناغمة مع ما ورد في كتابه من نصائح حيث جاءت صوره لتعالج مواضيع فلسفية بحته من قبيل الخلق والتكوين وعلاقة النموذج الكوني بالإنسان الصاعد، يتعاون رسم جبران وكلماته لتكوين نموذج متكامل لإنسان فيلسوف يستشف من معاناته الشخصية نصائح ليقدمها للبشرية على ورق أبيض سواء كتبها بالقلم أو رسمها بالريش.

عن "البدائع والطرائف":


في صفحات هذا الكتاب مجموعة من النصوص ، القصائد الشعرية وبعض الرسومات لبعض المفكرين العرب،  بإمكاني القول هذا الكتاب بعد كتاب الأجنحة المتكسرة أحسن ما كتب جبران خليل جبران حيث ضمنه رثاء لجورجي زيدان وثناء على الغزالي وابن سينا وابن الفارض.
قصة إرم ذات العماد التي وردت انطلاقا من الصفحة 69 أحسن ما في الكتاب من حيث المعنى والحبك، قصة آمنة العلوية التي مزج فيها جبران بين التاريخ والخيال اقتداء بمواطنه جورجي زيدان، وتبقى دعوته للاعتناء باللغة العربية وإيلائها الأهمية التي تستحقها أحد أحسن ما نافح عنه جبران وكافح، وكذا تمسكه بالقومية العربية وهو العربي الذي هاجر صغيرا إلى بوسطن ونيويورك وعركته الحياة هناك إلا أنها لم تنسه موطنه ومشاغله القومية العربية، حيث كتب مقالة طويلة بأسلوب خبري نلفيه عند جبران لأول مرة، عنونها بـ "مستقبل اللغة العربية". إن اعتماد جبران على المتناقضات والمقارنات بين الحدين المختلفين حد التناقض أكسبه سهولة واسهابا في الأسلوب جعل كلماته تنساب على الورق وعلى مرأى السامع بكل يسر.
ويظهر تأثر جبران بالقرآن والإنجيل واضحا وجليا في لغته فضلا عن أفكاره وهو الأديب المسيحي الذي أحب الإسلام لكنه حارب الدولة العثمانية.

عن "مناجاة أرواح":

كتاب مناجاة الأرواح لجبران خليل جبران وكعادته دائما كان وفيا لأسلوبه في الكتابة ولنمطه في التصوير بارع هو في استنطاق ما لا ينطق كالمشاعر والقبور والحيوانات والأرض والسماء والليل، غارق هو في عالم مواز للعالم المادي البحت، حكيم هو في بعض تخريجاته وصوره البيانية مغال بل وتافه في بعضها الأخر، عن نفسي أحسه أحيانا يكتب فقط ليتفادى أن لا يكتب، بينما في أحايين أخرى أحسه مملوءًا بالكلمات والجمل إن لم يكتب في أقرب الأوقات سيحصل له مكروه ما، لكنني أؤكد أن جبران خليل جبران لم يكن عبقريًا بقدر ما كان مجنونا على نحو ما وأنه نال من الشهرة والاحتفاء أكثر ما يستحقه بكثير.
وما أعيبه على هذا الكتاب وعديد الكتب الأخرى له، أنه كرر في كثيرمن الصفحات ما سبق أن نُشر في كتب أخرى كالمجنون والبدائع والطرائف والأرواح المتمردة.

عن كتابه: المجنون:

كتاب لجبران خليل جبران يقع في 97 صفحة، ضمنه جبران قصصًا خيالية ذات طابع فلسفي غالبًا، تراوحت بين القصيرة التي لم تزد عن صفحة إلى الطويلة نوعًا ما التي نمت عن 5 صفحات، بلغة بسيطة -أقل من أن تكون لغة أديب فذ بشهرة جبران خليل جبران-ومرد ذلك ربما لكون الكتاب كُتب أول ما كُتب بلغة انجليزية ومن ثم تمت ترجمته على يد أنطونيوس بشير.
عبر جبران عن خلجات نفسه وأحلامه، حيث كان الأديب ميالًا لتجسيد مشاعره في هيئة شخوص يحاورهم ويسائلهم يجيبهم فكانت مسرته وكآبته أطفالا اعتنى بهم ومن ثم فقدهم وأقام على فقدهم مأتمًا وعويلا، وكذلك كانت حواسه حيث أنطق جبران عينه ووضعها في حوار حاد مع أخواتها من الحواس، وهو الأمر نفسه مع أوراق الخريف والنمل والألهة والشيطان وحبة الرمان. وكان لا يتوان في وصف نفسه بالجنون حتى أنه قال عن طفولته أنه كان يتكلم لغة غير اللغة التي نطقها بها لسان والدته والمرضعة والكاهن.
كما سخر من من يختصرون السعادة في بضع دنانير فيدفعهم الطموح للفرح بأقراح الغير لأنها سبب فائدة لهم. كما تحدث عن العدالة العرجاء مستلهما من قصص التاريخ قصة خرافية تحمل الكثير من الرموز الانتقادية لنظام العدالة أنذاك. ويصر جبران دائما على كونه عدة ذوات لا ذاتا واحدة فمرة هو 3 ذوات ومرة هو 7 لا 3، كما نجد أثر فكرة التناسخ والحَلول حاضرا في قصصه وماثلا في مؤلفاته.

"الشعلة الزرقاء":

أن تُجمع رسائلك الخاصة وتنشر على العلن، قد يكون في هذا تجني عليك وتظلم، لكن إذا كنت أديبًا بحجم جبران خليل جبران ورسائلك مكتوبة لأجل أديبة بحجم مي زيادة فلم يبق لك خصوصية، وصارت رسائلكما محل دراسة ومتابعة، بل ومحل اقتداء وقدوة، لم يلتق جبران خليل جبران بمي إلا على سطح الورق بين نقط الحبر وفواصله، التقيا من خلال الأفكار والمشاعر لا من خلال الأماكن و الزمن، حب تغذا على الأفكار والمناقشات، والكتب والدوريات، والرسائل والمراسلات، فامتد لسنوات بل وللرمق الأخير من حياة جبران الذي عجلت وفاته بوفاة مي بعد أن ترك غيابه فراغًا رهيبا في قلبها أسكنها مستشفى الأمراض العقلية، لقد دحض جبران ومي أسطورة أن البعيد عن العين بعيد عن القلب، من ذا يوُصِل بين القاهرة ونيويورك، وآنئذ لا محادثات مصورة ولا أصوات عبر الخيوط متنقلة لا شيء عدا رسائل مكتوبة بخط اليد مختومة ببصمة القلب منقولة عبر البريد، ومعها كثير من الحب والوفاء، تعرفنا على جبران الإنسان ومي الإنسانة كما لم يكن ليُعرفنا بهم كتاب سيرة ذاتية ولا تراجم شخصية عنهما، ظل الكتاب شعلة زرقاء لدى محبي مي وجبران شاهدا على فترة زمنية أرخت لتاريخ مصر وسوريا ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية من خلال روحين قلقتين لم تعرفا الاستقرار ولا السكينة إلا أثناء كتابة الرسائل وقراءتها.

كتابه: "دمعة وابتسامة"

كتاب من 212 صفحة ضمنه جبران خليل جبران مجموعة مقالات وقصائد نثرية بأسلوب بسيط يميل للفصيح أحيانا، كتب جبران هذه المقالات لتُنشر في الصحف ثم جمعها بعد أن أتمها، سيطرت الطبيعة على جل المواضيع تلاتها المواضيع الفلسفية والنفسية ثم الاجتماعية، دافع جبران عن الفقر والفقراء وصفة الإنسانية والحب والحرب كما عرج على شعراء المهجر والمسيح واستشهد بأيات قرآنية.
مما ورد في دمعة وابتسامة وأذهلني:
-
إن كل كتابات جبران تدعو للتفكر العميق، فإن كنت تخاف أن تفكر فالأجدر بك أن لا تقرأ لجبران.
-
يُعيد على مسامعهم في اليقظة ما تسمعه أرواحهم في المنام.
-
وأن ما تجمعه الأحلام تفرقه اليقظة.
-
وقد جمعنا الحب فمن يفرقنا، وأخذنا الموت فمن يُرجعنا.
-
لا تحفظ الأبدية إلا المحبة لأنها مثلها.
-
أريد أن أموت شوقا ولا أحيا مللاً.
-
المال كالحب يميت من يضن به ويحي واهبه.
-
رأيت المرأة كالقيتارة في يد رجل لا يُحسن الضرب عليها، فتسمعه أنغاما لا ترضيه.
-
رأيت الدين مدفونا طيا الكتب والوهم قائم مقامه.
-
بالأمس كنت غنيا بسعادتي واليوم صرت فقيرا بمالي.
-
قل هي السعادة تبتدئ في قدس أقداس النفس ولا تأتي من الخارج، والأشياء تعود لمصادرها بحكم الطبيعة.
-
قد أحببت الحرية أكثر من كل شيء، لأنني وجدتها فتاة قد أضناها الانفراد، وأنحلها الاعتزال، حتى صارت خيالا شفافا يمر بين المنازل ...
-
الحكمة السرمدية لم تخلق شيئا باطلا تحت الشمس.
-
أحب الأرض بكليتي لأنها مرتع الإنسانية وروح الألوهية.


وختاما يجمُل بنا أن نقول أن جبران مثل الإنسانية بتنقضاتها وانتصر لها وأّنه نال الشهرة لأسباب عديدة قد يكون بعضها غير مفهوم إلا أن كتابته وإجادته للغة العربية والانجليزية وانتصاره لقضايا إنسانية فضلا عن القضايا التي تهم الإنسان العربي وخياله الخصب وحبه للطبيعة بل وتقديسه لها، وتبنيه للتيار الرومنسي وتزعمه لأدباء المهجر كل هذا جعل منه أديبا مثيرا للجدل ويستحق القراءة والتدبر.