جدر الإشارة بداية أن هذه المقالة كُتبت استرشادا واستلهاما وتلخيصا لمؤلف د. يوسف وغليسي الموسوم بـ "مناهج النقد الأدبي"، وما أخذنا من هذا الكتاب واعتمادنا عليه إلا تقديرا منا للمجهود
المبذول من طرف المؤلف وعرفانا منا له بأهمية ما أنجز.
بعد الموت
غير المعلن للبنيوية ظهرت حركة معرفية جديدة على أنقاضها سميت بما بعد البنيوية
وذلك في ستينات القرن الماضي، وأشهر رواد هذه الحركة جاك دريدا وجيل دولوز وميشال
فوكو، والتفكيكية مظهر نقدي لهذه الحركة الفلسفية. وقد عد كثيرون هذه الحركة
الفلسفية نقطة انعطاف في منحنى الدالة البنيوية، ويمكن اعتبار أن "ممثلي ما بعد البنيوية هم بنيويون
اكتشفوا خطأ طرائقهم على نحو مفاجئ" رامان سلدن:
النظرية الأدبية المعاصرة ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال، المغرب 1988، ص 133
حولت
التفكيكية الدال إلى متعدد الدلالات، يختلف في كل سياق عن سابقه، والبداية كانت مع
رولان بارت الذي كتب مقالته الشهيرة "موت المؤلف la mort de l’auteur " التي
صاغها سنة 1968 والتي حطم فيها صنم المؤلف وقوض مملكته. حيث اللغة في النص
"هي التي تتكلم وليس المؤلف"
رولان بارت: درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام
بن عبد العالي، ط3، دار توبقال، المغرب، 1993، ص 82. حيث أن كل ذلك عند
بارت وأتباعه يحد من غلواء المؤلف، وتسلطه على النص. حيث "نسبة النص إلى مؤلف
معناه إيقاف النص وحصره، وإعطائه مدلولا نهائيا، إنها إغلاق الكتابة" المرجع السابق، ص86.
وقد نربط بين
دعوته هذه ومبدأ المحايثة l’immanence
وربما يمتد الأمر إلى ما قبل ذلك إلى ت.س. إليوت في نظريته "التقاليد
والموهبة الفردية" حيث ذوب العبقرية الفردية في التقاليد الموروثة.
وبموت المؤلف
يكون بارت قد بشر بميلاد القارئ وعصر القراءة، حيث يصبح القارئ منتجا للنص بدل أن
كان مجرد مستهلك، " لا يمكن أن تنفتح الكتابة إلا بقلب الأسطورة التي تدعمها:
فميلاد القارئ رهين بموت المؤلف." المرجع السابق، ص
87.
إن في كل هذا
دعوة لتحرير القارئ من سلطة المدلول في النص ودعوته له لأن ينال لذته من النص
ويحلله كما يهوى، بعد أن كان القارئ في وقت سابق أكبر منسي في تاريخ الكتابة، مما
عجل بظهور "نظرية القراءة" و"جماليات التلقي". وقد نمت هذه
النظريات في اتجاهين:
أ.
الاتجاه الأمريكي: يمتد إلى ريتشاردز I , A , Richards (1893-1973)
في نظريته "النقد العلمي القائم على استجابة القارئ".
ب.
الاتجاه الألماني: في جهود جماعية سميت
"نظرية التلقي" و"جماليات التلقي" حيث أرست دعائمه مدرسة
كونستانس خلال السبعينات بزعامة هانس روبرت ياوس H.R.
jaus
و وولفانغ إيزر woolfgang Iser متظافرة مع
"جماعة برلين" في توجهها الماركسي.
عود على بدء، التفكيكية Déconstruction قدمها رائدها جاك دريدا على
أنها "اللاأدرية" ونفى عنها صفتي التحليل والنقد، "ليس التفكيك منهجا ولا يمكن تحويله إلى
منهج، خصوصا إذا ما أكدنا على الدلالة الإجرائية أو التقنية." جاك دريدا: الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال
المغرب، 1988، ص 60_61
وقد اشتهر دريدا بكلمته: " ما الذي لا يكون التفكيك؟
كل شيء، ما التفكيك؟ لا شيء.
والتفكيك طريقة لقراءة الفلسفة أو هي "مقاربة
فلسفية للنصوص" وهو "نظرية تهدف إلى إنتاج تفسيرات لنصوص خاصة. أقل ما
تهدف إلى فحص الطريقة التي يقرأ بها القراء هذه النصوص." ديفيد بشبندر: نظرية الادب المعاصر وقراءة الشعر، ص 75.
سعت التفكيكية إلى تحرير النص من القراءة الأحادية
والتأسيس " لممارسة تتحدى النصوص التي تبدو وكأنها مرتبطة بمدلول محدد ونهائي
وصريح." أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات
والتفكيك، ص 124.
أورد د. يوسف وغليسي نقلا عن كريس بلذيك c. Baldick مختصرا لمرجعيات القراءة
التفكيكية على النحو التالي:
التفكيكية = اعتباطية العلامة اللغوية (دو سوسير) + الشك
الفلسفي (نتشة وهيدغر) + آلية القراءة الفاحصة وأفكار الالتباس والتورية (النقد
الجديد)+ أولوية اللغة على الدلالة (مدرسة يال).
اقترح دريدا " قراءة النص بما هو انتاج لمعان غير
قابلة للتجميع" حيث تغدو العلامة موضع تشويش دائم بين المعنى المرجعي والمعنى
المجازي." أي أن القارئ لم يعد بإمكانه السيطرة على النص لأن هذا الأخير لم
يعد يسمع له بذلك.
وعليه "هل يمكن أن نقرأ النص حقيقة؟ (peut-on dés
vraiment lire le texte ?)
طرح هذا السؤال جيرار جنجومبر في حديثه عن مدرسة يال
التفكيكية، حيث عرض هذا السؤال المدرسة للكثير من الانتقادات اللاذعة. حيث استعمل
نقاد هذه المدرسة مصطح
( لا إمكانية القراءة the unreadability) كجواب على السؤال الآنف.
في سنة 1966 نظمت جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة
الأمريكية ندوة تاريخية حضرها نجوم المشهد النقدي المعاصر ( رولان بارت، تزفيتان
تودوروف، لوسيان غولدمان، جورج بولي، جاك دريدا، جاك لاكان...) ورغم أنها كانت
ندوة بنيوية بالأساس إلا أنه تم فيها صياغة بيان التفكيكية والمابعد بنيوية لأول
مرة، وشارك فيها جاك دريدا بمقاله المتميز: البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم
الإنسانية. ثم بعدها بسنة أصدر ثلاث كتب شكلت ركائز التفكيكية هي: الكتابة
والاختلاف والصوت والظاهرة و في علم الكتابة.
والمتأمل في
حياة جاك دريدا الجزائري المولد الفرنسي الجنسية اليهودي الديانة الأمريكي الإقامة
يفهم إلى حد ما البعد النفسي للتفكيكية التي دعا إلى دريدا وسعى لوضع أسسها
وتميزها عما سواها إلا أنه لم يفلح في ذلك كثيرا لأنه جل كتاباته اكتنفها الغموض
في ظل مجتمع فرنسي يعد "الوضوح مزية وطنية أو رمزا يدل على الذهنية
الفرنسية" جون ستوك: البنيوية وما بعدها، ترجمة محمد
عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، فيفري 1996، ص 27. وربما لهذه الأسباب
بالذات أو لغيرها لم تجد التفكيكية ترحابا واسعا في الثقافة النقدية العربية.
وصلت
التفكيكية للعالم العربي على استحياء سنة 1985، مع الناقد السعودي عبد الله
الغذامي، في كتابه "الخطيئة والتكفير- من البنيوية إلى التشريحية - قراءة لنموذج إنساني معاصر." ثم تلا هذا
الكتاب كتب أخرى.
ومن جملة
التعريفات المقدمة لفعل التشريح عند دريدا تعريف سعيد علوش الذي قسمه لثلاث مراحل:
1. التحليل السيميولوجي لتكوين إيديولوجي موروث.
2. تجزيء عناصر النص إلى وحدات صغرى وكبرى.
3. عملية فهم لتركيب العمل الأدبي. معجم المصطلحات
الأدبية المعاصرة، ص 97.
ويرى محمد
عناني أن أساس التفكيكية هي "اعتبار كل قراءة للنص بمثابة تفسير جديد له،
واستحالة الوصول إلى معنى نهائي وكامل لأي نص، والتحرر من اعتبار النص كائنا مغلقا
ومستقلا بذاته." محمد عناني: المصطلحات الأدبية الحديثة،
معجم، ص 15.
وتجمع جل
الكتابات على أن القراءة التفكيكية قراءة متضادة، تثبت معنا للنص ثم ما تلبث أن
تنقضه لتقيم آخر على أنقاضه. إنها تسعى لإثبات أن ما هو هامشي قد يصير مركزيا إذا
نظرنا إليه من زاوية مغايرة.
وهو عند عبد
المالك مرتاض "تقويض لغة النص أجزاء أجزاء... لتبين مركزيّ للنص... ثم يُعاد
تطنيبه، أو تركيب لغته على ضوء نتائج التقويض." عبد
المالك مرتاض: مدخل في قراءة الحداثة، ص13
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق